رمضان يوسف الزمان في عين يعقوب الإيمان
“من كلام ابن الجوزي”
▪️ سلسلة أياما معدودات (١)
قيل: الشُّهور الاثنا عشَرَ كمثل أولاد يَعْقوب عليه وعليهم السَّلام.
وشهر رَمَضان بَين الشُّهور كيوسف بَين إخْوته؛ فَكما أنَّ يوسُف أحب الأوْلاد إلى يَعْقوب، كذَلِك رَمَضان أحبُّ الشُّهور إلى علَّام الغيوب.
ــ نكت في ذَلِك:
• نُكْتَة حَسَنة لأمة مُحَمَّد صلى الله عَليْه وسلم:
إن كانَ في يوسُف مِن الْحلم والْعَفو ما غمر جفاءهم حين قال: ﴿ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ﴾ [يوسف: 92]، فكذَلك شهر رَمَضان فيه مِن الرَّأفة والبركات والنِّعْمَة والخيرات والعِتْق من النَّار، والغفران من الْمَلِك القهَّار، ما يغلب جَميع الشُّهور، وما اكتسبنا فيه مِن الآثام والأوزار.
• نُكْتَة حَسَنَة:
الْإشارَة فيه جاء إخْوة يوسُف معتمدين عَليْه في سدِّ الْخَلل وإزاحة الْعِلل بعد أن كانوا أصْحابَ خَطايا وزلَل، فَأحْسَن لهم الإنْزال وأصْلَح لهم الأَحْوال وبلَّغهم غايَة الآمال، وأطعمهم في الْجوع وأذِن لهم في الرُّجوع، وقال لفتيانه: ﴿ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا ﴾ [يوسف: 62]، فسدَّ الْواحِدُ خَلَل أحد عشر.
كذَلِك شهر رَمَضان واحِدٌ، والشهور أحد عشر، وفي أعمالنا خَلَل، وأيُّ خلَل؟! وتقصير، وأيُّ تَقْصير؟! وتفريط في طاعَة الْعَليم الْخَبير، ونحن نرجو أن نتلافى في شَهر رَمَضان ما فرَّطنا فيه في سائِر الشُّهور، ونصلح فيه فاسِد الْأُمور، ويختمه علينا بالفرحِ والسُّرور، ونعتصم فيه بِحَبل الْملك الغفور، إن شاء الله تَعالى بمنِّه وإحسانه، وعفوه وغفرانِه، إنَّه سميع بَصير، وهو نِعم المولى، ونِعم النَّصير.
• وإشارَة أُخْرَى:
كان ليعقوب أحدَ عَشَرَ ولدًا ذُكورًا، وبَين يَدَيْه حاضرين، ينظرُ إليهم ويراهم، ويطَّلع على أحْوالهم وما يبدو مِن أفعالهم، ولم يرْتَدَّ بَصَره بِشَيْء مِن ثيابهم، وارتدَّ بقميص يوسُف بَصيرا، وصار بَصَرُه منيرا، وصارَ قَويًّا بعد الضَّعْف، بَصيرًا بعد الْعَمى، فَكذَلك المذنِبُ العاصي، إذا شَمَّ رَوائحَ رَمَضانَ وجلَسَ فيه مَعَ المذكِّرين وقَرَأ الْقُرْآنَ، وصحبهم بِشَرْط الإسْلامِ والإيمان، وترك الْغِيبةَ وقَول الْبُهْتان، يصير إن شاء الله مغفورًا له بعد ما كان عاصياً، وقريبًا بعد ما كانَ قاصياً، ينظر بِقَلْبِه بعد الْعَمى، ويسعد بِقُرْبِه بعد الشَّقا، ويقابل بِالرَّحْمَة بعد السخط، ويرزق بِلا مؤونة ولا تَعب، ويوفق طول حَياته، ويرفق بِقَبض روحه عِند الوَفاة، ويفضل بالمغفرة عِنْد اللِّقاء، ويحظى في الْجنان بدرجات الالتقاء.
فاللهَ الله! اغتنموا هذِه الْفَضيلة في هذه الْأيَّام القليلة، تعقبكم النِّعْمَة الجزيلة، والدرجة الجليلة، والراحة الطَّويلة إن شاءَ الله، هذه والله الرَّاحَة الوافرة، والمنزلة السائرة، والْحالة الرضيَّة، والْجنَّة السريَّة، والنعْمَة الهنية، والعيشة الرضية، لا تُنال إلَّا بالوقار، لهذا الشَّهْر الَّذي عظمه الجَبَّار، وفضَّل بِه محمَّدًا الْمُخْتار، ومَن لا يوقِّره كان مصيره إلى النَّار.