الأحد , ديسمبر 22 2024

حُلم يتيم


مرحبًا .. أنا امرأة من حضرموت وأبلغ من سنين الحزن خمسين، أرملة ثكلى شق رحمي وقلبي اثنين، نصف أسماه أباه المرحوم صالح والنصف الآخر اسميته محمد توسمًا مني بأن يشبه حبيبنا المصطفى ﷺ ولو قليلًا ..

ها هما أمام ناظري كانا يلعبان ويلهوان ويقفزان من أعلى أسوار روحي نحو الحياة بجموح كان صالح في التاسعة ومحمد في السادسة من عمره عندما كان كلاً منهما يرتدي حُلمهُ النائم على رف المستقبل، فبَكْرِي يحلم بأن يكون ضابطاً شجاعا ولا يكفُ عن تصويب المسدس البلاستيكي نحو كل من يعترض طريقه ويقوم له بنبرة طفولية مضخمة( سلم نفسك )، وأخيه الأصغر يحمل قلب مرهف الحس يود لو أن يده تصل إلى جراح الجميع ليطيّبها، فحُلمه أن يصبح طبيباً ولهذا يرتدي سترة بيضاء ويعلق على عنقه سماعة طبية هي الأخرى من البلاستيك وهو الآخر لا يكل ولا يمل من وضع السماعة فوق قلوب البشر وحتى الدمى .!

تمر الأيام وقلبي المشقوق يكبر، نصف يزداد خشونة والنصف الأخر يزاد رأفة بالجميع ويمشيان في دربِ أحلامهما، إلى أن دخل صالح عليّ في أحد الأيام يبشرني بتعيينه قائدًا على الكتيبة في الجيش وهو يرتدي البدلة العسكرية، كان بهياً فيها كبدرٍ وشامخًا كجبل ، دخل ووجهه مهلّلًا وابتسامة رائعة تشدُ قسمات وجهه وقال :
“أمي لقد بلغت الحُلم الأول وصرتُ قائداً لكتيبة كاملة” ..
رددتُ عليه بعد أن تغرغرت مقلتي بدموعٍ باردة :
“مبارك لك يا بُني كم أني مسرورةً وفخورةً بك” .
انحنى على ركبته وقال :
“لو كان السجود لغير لله يجوز كنتُ سجدتُ لك عرفاناً بعظيم ما فعلته لأجلي يا أماه” .
وضعتُ يدي على وجهي كففُ بهما دموع فرحتي وقلت :
“قف يا صالح ولا تنحني لغير لله”
فصلب نفسه من جديد ولازالت ابتسامته مشعة ثم تلاشت قليلًا وحل محلها حرجٌ طفيف وهمهم بتردد خجول :
لكن الحُلم الثاني يا أمي متى سأبلغه؟
فهمت سبب علامات الحرج و الخجل التي تفشت في وجهه منذ وهلة فأنا أعرف بأنه يرغب بالزواج من ابنة جارنا الجشع .. ابتسمتُ وقلت:
سأخطبها لك لكن والدها يا بني لم يراعي الجيرة ولا حتى أنك يتيم الأب وكل مرة أذهب لخطبتها يبالغون في المهر يا بني وقوائم الرغبات التي تفوق مقدرتك،
كسى صالح الحزن وقال :
لا أرى ولا أريد غير هند زوجة لي يا أمي حتى لو كلفني الأمر أن استدين من كل من عرفته .

ثم خرج من الغرفة بشموخهُ المعتاد وكان محقًا في وعده ففعل المستحيل وملأ جيوبه بالديون ليسدد مهر هند حبيبته الغالية جدًا وكانت له وتم كل شيء على أحسن ما يكون، أقام زواجًا أصيلًا يشبه أصالة قلبه زواجًا بطقوس حضرمية عريقة من رقصات شعبية وزامل ومجموعة من الفنون الشعبية الجميلة وأخرى مؤذية، كان الجميع سعيدًا ويرقص لفرحته..
لكن سرعان ما تلاشت الفرحة حينما أصابت رصاصة طائشة من أحدهم رجلًا غريبًا ينتمي لعائلة همجية حتى أننا لا نعرفه لكن على ما يبدو أن قدره ساقه إلى زواج ابني صالح ليلقى حتفه على يد أحد المعازيم المتحمسين وهو يطلق النار في الهواء!

وعلى الرغم من إن لا علاقة لعائلتنا بالحدث المأساوي إلا إننا كنا من احتضنه وعلى هذا لابد من أن ندفع الثمن .. وكان الثمن باهضًا !

وفي يوم لم تشرق له شمس وكم من الأيام التي لا شمس لها كنتُ أجلس انظر لابني الصغير محمد وهو يستعد ويضع أشياءه في حقيبته ليسافر ليلحق بمنحة خارجية يدرس الطب فيها كما كان يحلم ، هو الآخر كاد أن يبلغ حلمه قلت له وأنا أنظر له بحزن :
“لا تغب عني يا بني ولا تقطع اتصالاتك”
قال هو يبتسم :
“أكيد يا أمي”
وحمل حقيبته وهم بالخروج ولكن صراخًا اندلع بالقرب من باب البيت كان رجل يصرخ بأعلى صوته ويقول:
“دم أخي لن يذهب سدى!”
لكن رجالا من الشارع حاولوا تهدئته ولكنه لم يهدأ وتدخل رجل عاقل وقال له :
سندفع لك الدية عن دم أخيك
هدأ قليلاً وفكر ثم قال :
مئة مليون ريال
رد الرجل العاقل :
كثير يا رجل هذه العائلة يتيمة وفي الأصل لا علاقة لهم بمقتل أخيك في يوم زواج ابنهم .
وقبل أن يكمل الجدال مع الرجل العاقل..
احتقنت الدماء في وجهه عندما ظهر له ابني محمد يخرج من باب البيت وهو يحاول أن يفهم ماذا يجري لكن قبل أن تكمل قدمه خطوتها اخترقت قلبه رصاصة مقصودة من أخ القتيل وهرب هو يقول بعلو صوته : “الطارف غريم ..!”
و بعدها سقط طفلي محمد ولم يقم …

وكان شهيد مجتمع وعادات وتقاليد!

وبعد سنين من رحيل نصف قلبي ..

هناك في أرض الحرب مازال نصفٌ آخر يدافع عن وطن خائن، وطن أبتلع جزءًا منه الفساد وأجزاء كثيرة الموت جوعًا أو كفرًا .

كان ينقب عن الألغام بقلب شجاع وخوف بشري وفي إحدى الأيام أنفجر فيه لغم وهو يحاول استخراجه من باطن الأرض تناثرت أشلاءه في الهواء ..
وكان شهيد وطن وحرب خسيسة!

وها أنا اليوم عجوز دون قلبٍ إلا قطعة، أجلس على كرسي الزمن أنتظر دوري في الموت ،
فقدتُ طفلاي أحدهما مات وهو لم يطأ حلمه والأخر تلاشت أجزاء جسده وهو على متن الحُلم..!
لكن ابني صالح قبل أن يرحل ترك لي قطعة منه ومن أشلاء قلبي تحمل اسمه وملامحه وحتى حُلمه قطعة جعلتني أتشبث بالرمق الأخير من الحياة، قطعة صغيرة لها قدمان صغيران تركض في أرجاء منزل تسكنه عجوز وأرملة ابنها الوفية وحفيدها المشاكس محمد، وهو القطعة الباقية من شهيد الوطن يركض وهو يحمل سلاحًا بلاستيكي ويرتدي بدلة عسكرية ويقول وهو يصوب المسدس نحوي :
جدتي سلمي نفسك!!

النهاية ..

✍🏻سارة عبد الله

عن ادارة التحرير

Avatar

شاهد أيضاً

الدكتور فهمي فرارة: أحد صنّاع عهد التميز لنادي الوطن ..

    الدكتور فهمي فرارة: أحد صنّاع عهد التميز لنادي الوطن .. داود الكثيري عندما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *