قائد قبلي حضرمي يرفض الإمارة ويطلب من الدولة الرفق بالمزارعين
( مواقف بطولية لرجال من حضرموت ٧)
من المواقف المشرّفة التي تناقلتها الكتب والرجال موقف الشّيخ الزاهد عوض بن عبد الله بن عانوز العامري، فقد جاء إليه السلطان غالب بن محسن الكثيري مؤسس الدولة الكثيرية الرابعة، بعد أن كان من ضمن من استبسلوا وكان لهم دور مؤثر في معركة المحايل التي تعد من أهم المعارك وأشهرها في ذلك الوقت، وأعطاه السلطان غالب كثيرا من الرصاص والبارود مكافأة له على ما أبلى وما أنفق من ماله في هذه المعركة التي ساهمت في بقاء الدولة، فرفض الشيخ عوض وقال : “إنّما أردت بمعونتي وجه الله تعالى”
بمعنى أنّه لم يقاتل لأجل يحقق مكتسب مالي أو مجد شخصي، فأُعجب السلطان بهذا الشّيخ الزاهد الذي قدم الكثير ومع ذلك يرفض مكافأته وتعويض خسائره، فعرض عليه أن يولّيه إمارة تريس لكونه جديرا بالثقة ولزهده، فرفض هذا الشّيخ أيضا وقال له: “لا أريد منكم إلّا الشّفقة بالّذين يحرثون آبارنا بأعمال تريس” !
لم يطلب الشّيخ عوض بن عانوز العامري مطلب شخصي له أو لقومه مع أنه حق من حقوقهم لاستبسالهم، لكن اهتمّ بمصلحة المزارع البسيط الذي يسكن بجوارهم وطلب من سلطان الدولة التخفيف عليهم وعدم فرض ضرائب عليهم.
وهذا الموقف البطولي يخبر أنّ في ذلك الزمان رجال من شيوخ قبائل حضرموت كانوا أهل دين وشرف وصدق ورحمة بالضعيف والمسكين ولا تنطلق في مواقفها من المطامح الشخصية البحتة أو السياسية
لقد رفض هذا الشّيخ الإمارة ورفض تعويض خسائره،
والحقيقة أنّ معركة محايل التي وقعت في عام ١٢٨٥ هجري كانت من أبرز المعارك في الدولة الكثيرية الرابعة والدولة القعيطية، وتميزت هذه المعركة بأنّ السلطان عمر عوض القعيطي عندما ضم السلطان غالب بن محسن الكثيري الشحر وأخذها من آل بريك جمع عددا كبيرا من يافع حضرموت ويافع الجبل وأضاف لهم قوم جدد وهم الرويلة الأفغان ومن هنود حيدر أباد، حيث كان قائد برتبة جمعدار مثل منافسه ولديهما خبرة عسكرية، والحقيقة أنه نجح في ضم الشحر وألحق الهزيمة بالسلطان غالب بن محسن وجيشه المكون من قبائل آل كثير، والجوابر، والعوامر، وآل باجري أهل الوادي، إضافة إلى بعض قبائل الساحل مثل بعض الحموم، وآل باعمر العوابثة، وسيبان ومشايخ العمودي وانسحب السلطان وجيشه إلى الوادي ليجهز القعيطي جيش من المكونات المذكورة وكان للرويلة الأفغان سمعة عن صلابتهم وقوتهم ويَظهر أنهم كانوا من ضمن عسكر حيدر أباد، وبدأت المعركة حيث نقلها ابن حميد الكندي بهجوم ضخم على الأكوات وهي الحصون الصغيرة التي فيها فروع آل كثير في مناطقهم، وهذي يندر حصولها لكن لكثرة عددهم اختاروا إسقاط الحصون التي ستوصل لسيئون وكان في كل حصن عدد من أبناء فخذ من الفخايذ الكثيرية وإذا أمامهم عدد يتجاوز الألف مقاتل يهاجم حصون فيها أعداد بسيطة، وقد استولى جيش القعيطي على عدة أكوات وكان للرويلة دور بارز في ذلك بتفجير اثنين من الأكوات واحترق عدد من آل عبدات الكثيري وآل باجري في أحد الأكوات، وهجموا على دار لآل كده، فممن ثبت لهم سعيد بن فرج بن كده واستبسل ولم يزل يقاتلهم مع استيلائهم على جزء من الدار، وقتلِهم لعدد من جيرانه ومن هم حوله وثبت حتى نهاية المعركة وهزيمة رجال القعيطي، ووصل الخبر للسلطان وقبائل الدولة الكثيرية الشنافر من آل كثير، والعوامر، والجوابر، وآل باجري، فأدركوهم وسبقهم هجوم من عبيد الدولة على الموقع الذي احترق فيه إخوتهم فانهزم بعض رجال القعيطي ثم تبعه هجوم آل كثير،والعوامر، والجوابر، وآل باجري فقتل عدد كبير من رجال القعيطي، أكثرهم من الرويلة الأفغان ويذكر ابن حميد إنّ القتلى والجرحى في هذه المعركة لم يُعهد مثله في حضرموت فقد قتل أكثر من 200 أغلبهم من الرويلة غير قتلى بقية الجيش التي أخذت قتلاهم معهم لشبام رحم الله الجميع وعفا عنهم وقد يكون هناك معارك أكبر منها.
كان هذا العدد الضخم معه الفؤوس والمساحي وطموحه يستولي على سيئون وتريم وإسقاط الدولة الكثيرية لكن بمشيئة الله انهزم في بلاد الشنافر حيث تداعوا قبائل الدولة الكثيرية من كل حدب وصوب وانطبقت عليهم مقولة (صِحْ بهم ولا تواعدهم) بمعنى أنهم قد يختلفون في آرائهم ولا يجتمعون كثيرا على رأي عند القيام بعمل، لكن إذا ناديتهم في الأزمة ستجدهم حاضرين وهي في الأخير تعتبر معركة حياة أو موت وفي بلادهم إضافة إلى أن الجيش المهاجم مع كثرته إلا أنه يظهر أنه دخل في منطقة مفتوحة ظنا منه أن كثرته ومباغتة خصومه وإسقاط حصونهم وأكواتهم سيحسم المعركة لصالحه.
وقد كان للشاعر سعيد بن عبد الحق الدموني وصف للرويلة الأفغان وشراستهم ورهبة النّاس من هؤلاء الجبابرة الاشدّاء واعتقادهم أن المعركة محسومة لهذا الجيش الضخم
يافع جبل ويافع حضرموت
والهند لي منه الكبد منغولة
من الرويلة لي تضيم أفعالهم
غلاظ ما يعرفوا التهلولة
غذيوا بشرب الخمر ظاهر فعلهم
ومن حمل منهم دحق مقتوله
يتحدث الشاعر أن الرويلة الأفغان المذكورين أهل تجبر ويشربون الخمر وأنهم لا يعرفون لا إله إلا الله وقد تكون مبالغة في وصف ابتعادهم عن الدين وإلا فهم مسلمين والحقيقة أن هذا المسمى الرويلة الذي أطلقه الحضارم عليهم قد يكون تحريف من مسمى آخر لهم وقد ذكر الأستاذ حسن بن منيباري أنهم كانوا يلبسوا الحلق في آذانهم وكان بسبب هذه قصة عجيبة
عجيبة لأحد الصاغة بعد انتهاء كثرة القتلى منهم
الشحر طابت والمكلا سلمت
كما نظمت أبياتي المنقولة
جا عكسها لي بأقوامهم لي خربت
بالوعد وصلت والقبل مغفولة
ارتج كم من قلب من مخرجهم
والخلق في وادي العجل مفشولة
من قوم ما تحصى عدد في دفتر
شافوا فعايل منها مجمولة
في ظننا قلنا ليافع يصفى
وادي بن راشد يرجعون احلوله
خرج عوض لي عالكثيري جَهَّز
يبغى منازل بأهلها محلولة
سيول فتكت والقعيطي قبلها
ما قايس إن حد با يرد اسيوله
همدان كلن في حلاله طَلَق
كم من جمل يوشي بثقل احموله
وحلفوا إن لا حد يولَّي مدبر
وأتت جمال الثقل حل احموله
عبود بن صالح وصل بأصحابه
وباجري بعده فرح بوصوله
والعامري أما الكثيري قوَّس
ما قال لي ماحد ظهر وصوا له
ما غير همدان الذي شاقونا
بالجود وأشفوا كبدي المعلولة
وردَّوا السيل البعيد المفرع
والشارة أمست فاترة مفصولة
عادت على وادي الكثيري تبرق
سيله سقى الوادي بدم سيوله
تحدث الشاعر أن القعيطي بعد أن استولى على الشحر وسلمت المكلا ونقيبها الكسادي من غالب بن محسن، قام بالتجهيز لحملة عسكرية، ومن كثرة أعدادهم ذكر أنهم لا يمكن إحصاء عددهم في دفتر مثل أغلب المعارك السابقة، وذكر عن أنّه اعتقد أنّ الأمر يصفى للقعيطي وقومه إضافة إلى أنّ هجومهم كان فجأة في ظل انشغال قبائل الدولة الكثيرية، لكن الطرف المقابل بعدما وصل لهم هجوم الجيش القعيطي يذكر أنهم كانوا عازمين على قتاله وإنّهم إنْ لم يكن لهم موقف مشرف فنساءهم طلاق وهذه مبالغة للدلالة بأن المعركة حياة أو موت وذكر إنّهم حلفوا وأقسموا على أنْ لا يفرّ أحد منهم، ثم ذكر القبائل المشاركة، وأما عبود بن صالح المذكور في القصيدة فهو قائد آل جابر في هذه المعركة
وللشاعر أبيات أخرى في وصف دخول الرويلة في المعركة وكيف أنّها انتهت بحلق الدقون وهذه مبالغة في وصف انهزامهم وكيف أنّهم رجعوا إلى البنادر وهي الشحر والمكلا بعد الهزيمة
شفت الرويلة غائبين الحس ساعة يحملون
حملوا وصاروا في هبط همدان في الميفا رشون
وفوق ذلك وقع حول هدامة حلق الدقون
إلى البنادر رجعوا أجملهم فيا غبن الغبون
ويظهر أن الشاعر سعيد عبد الحق الدموني يحمل من الغضب للرويلة في نفسه الشيء الكثير وقد كانت هذه المعركة شفاء لمافي نفسه كما صرح في قصائده
من الرويلة شفت عينة روسهم بحري حمائي
أخبارهم قدها بهندستان من رايح وجائي
ذولا مرض لجواف والجودة لهم من انتشائي
يا سامعين المدح إن أحد منكم يبغى رضائي
يلقي كما همدان لي في جودهم ظاهر عنائي
وللشيخ جعفر بن سالم بن طالب الكثيري أبيات عن هذه المعركة التي وصفها بالمريحن لضخامتها
قال اللي ماحضرت المريحن
بحري بحيره نظرنا بالعيون
همدان والسند واقوام اليمن
ولي بسبيه خريبه يرطنون
حول المحايل تعكين الزون
ولعاد شوروا يفوعه ينزحون
قد ذاقوا الموت من تركة حسن
أهل النمش والجنابي يطعنون
وينتمي الشيخ عوض بن عانوز إلى قبيلة العوامر وهي من الأربع القبائل التي ذكرها الشاعر في هذه المعركة، وكان لها دور كبير ومشاركة وتأثير في الدول الكثيرية وخصوصاً الدولة الأخيرة، فقد ذكر ابن حميد أنّ الكتيبة الأولى التي دخلت سيئون عندما استعادها السلطان غالب بن محسن كانت من العوامر، وأدوار العوامر التاريخية أكبر من أن تحصر في مقال، فحين اعتقل السلطان بدر بو طويرق الشيخ محمد بن علي بن فارس النهدي وطلب من الشنافر من آل كثير والعوامر والجوابر القتال معه رفضوا لوجود هدنة مع نهد بل بعضهم انضم مع نهد إلى أنْ التقى الشيخ حطاب العامري بالسلطان واستطاع تقريب وجهات النظر ونجحت مساعيه في فك أسر الشيخ محمد بن علي، والسعي في الصلح بينهما وبشكل عام لا تخلو قبيلة في حضرموت إلّا كان لها في وقت معين دور مؤثر في الدولة الكثيرية سواء دولة غالب بن محسن أو الدول التي قبلها لطول زمانها
وممن شارك في هذه المعركة أيضا : الشّيخ جعفر بن عليّ بن عانوز العامري وقد ذكر ابن عبيدالله السقاف أنّه كثير العبادة ، شديد الورع ، طويل الصّلاة، ويقول
وكنت أقول له :” هل قتلت أحدا بيدك في واقعة المحايل”؟ .. فيقول : “إنّهم بغاة’
ويظهر أنّ مقصده أن الطرف الآخر هو المهاجم، وأيّاً كان نسأل الله أن يعفو عنهم جميعاً، لكن يظهر أنّ هناك من لم يكن محركهم في قتالهم من أبناء حضرموت الرغبة في الصراع أو المكاسب المادية بل كان سبب قتالهم لدفع ظلم وبغي عليهم عفا الله عنهم جميعاً.
والحقيقة إن موقف الشيخ عوض بن عانوز العامري في رفض المكتسبات المادية والمنصب مع تقديم التّضحيات لهي صورة عن بعض النماذج الحسنة التي كان دينها وأخلاقها ومروءتها هو من يقودها، نسأل الله أن يغفر لهم ويرحمهم جميعا
المراجع
تاريخ ابن حميد الكندي
تاريخ الشحر وأخبار القرن العاشر
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت
مقدمة أنساب وأشعار قبائل آل كثير الهمدانية حسن البرقي
عبد الإله بن سعيد بن عيلي