مواقف بطولية لرجال من حضرموت ٨
*من المواقف التاريخية المشرفة عن دور القبيلة الإيجابي في حضرموت في حماية المجتمع من طغيان السلطة وصنع توازنات تعود للمجتمع بالنفع ما ذكره ابن حميد الكندي في كتابه تاريخ حضرموت من دخول آل كثير الشنافر لمدينة شبام وإعلانهم أن التجار في حمايتهم في جعيمة بعد أن فرضت الدولة ضرائب عالية عليهم عام ١١١٨ هجري وكانت الدولة الكثيرية الأولى قد ظهرت بوادر ضعفها وتفككها بعد أكثر من ٣٠٠ عام من قيامها وبعد وحدة سياسية تعتبر الأكثر مساحة والأطول عمرا من ظفار إلى أجزاء من شبوة بعد وجود ثلاثة من السلاطين الأحفاد المتصارعين وهم عيسى بن بدر بن عمر ويعتبر الثامن عشر من سلاطين الدولة والسلطان عمر بن جعفر بن علي بن عبدالله والسلطان بدر بن محمد بن بدر في تنافس شديد على الحكم وقبل ذلك وجود صراع بين فرعين منهم وهم آل عبد الله وآل بدر أبناء السلطان عمر بن بدر وكل واحد منهم يسعى ليكون السلطان ويستقطب قبائل حضرموت ومن حولها بجانبه وتجنيد أكبر عدد من العساكر في صفه من خارج حضرموت سواء من الزيدية أو يافع وبسبب التجنيد يلتزم السلاطين المذكورين بمصاريف شهرية للجنود لذلك زادت الضرائب إضافة إلى أن الصراع بينهم ساهم في ضعف الحركة الاقتصادية والانفلات الأمني
ويذكر ابن حميد إنه في جمادى الأولى من عام ١١١٨ هجري خرج تجار مدينة شبام وتوجهوا لجعيمة لأن الدولة طلبوا منهم دفعة ثقيلة عليهم من الضرائب ويظهر أن الدافع هو أن عيسى بن بدر أراد إعطاء مصاريف العسكر الذين عنده لأنهم طلبوا مصاريف خمسة أشهر منه قد تكون مستحقات متأخرة ليواجهوا منافسه عمر بن جعفر الذي جاء بجيش فاتفق معهم على أن يعطيهم مصاريف ثلاثة أشهر لكن كانت هذه الضرائب عالية وفوق طاقة التجار فدخل آل كثير الشنافر شبام وطربوا أي أعلنوا أن التجار في حمايتهم من هذه الضرائب التي لا تطاق وأرهقت الناس ولا سيما التجار فلم يعد العمل مشجع لهم إضافة إلى حصول تجاوزات من بعض العسكر وموالي الدولة واستغلالهم للسلطة وهذا ما جعل جعيمة مقصد للتجار كوسيلة ظغط على الدولة للتراجع عن هذي القرارات التي عطلت التجار وعندها أرسلت الدولة رسول من أحد وجهاء الشنافر وقال لهم : إن لم يرجع التجار منكم فالوجه إليكم بمعنى أن الدولة سترسل جيش فردوا جوابا أن آل سعيد رفضوا التبراة من الحماية وأن ربع شبام باقون عليه ومعناه أنهم يرفضوا أن يرجعوا التجار وأنهم في حمايتهم حتى لو الدولة أرسلت جيش لقتالهم والحقيقة إن هذا الموقف الشجاع خلفه إيمان بالقضية ورفض لطغيان السلطة بشكل شجاع ويظهر أن آل سعيد من ذلك الوقت كانوا أكبر وأكثر قبائل آل كثير جعيمة لذلك ذكر المؤرخ رفضهم والحقيقة أن الجغرافيا التي تميز بها وادي جعيمة وثقل آل كثير بها يجعلها موقع يحتمى به في الأزمات ويظهر معهم من غير آل كثير جعيمة لكن لموقعها الاستراتيجي
ويذكر المؤرخ أن الدولة لم يتم لهم في شبام أمر وصار بعض الموالي يلاحقون من وجدوه في شبام لطلب الضرائب ومطالب مالية والعسكر الزيدية في شبام توجهوا لسيئون بسبب ذلك وبقي الأمير جعفر بن عيسى بن بدر في شبام هو والقعطة والمقصود بهم فرع كبير من يافع كانوا عسكر عند السلطان المذكور ومن أحفادهم الجمعدار عمر بن عوض القعيطي مؤسس الدولة القعيطية وبسبب رفض آل سعيد إخراج التجار جهز السلطان عيسى بن بدر جيش من العسكر وعدد من القبائل لجعيمة وعندما أراد التحرك من سيئون وصلت أخبار عن اقتراب منافسه السلطان عمر بن جعفر الذي أعلن التبعية للإمام ليستمد منه قوة لمنافسة خصومه عيسى بن بدر وبدر بن محمد مع أن الدولة في ذلك الوقت تحت التبعية الاسمية لنفوذ الدولة القاسمية لكن فعلياً لم يكن لهم قرار في تعيين الولاة بعد ثورة آل كثير في ظفار وقتلهم عشرين من أتباع الإمام المتوكل ثم طرد كافة الولاة من ظفار وحضرموت واكتفاء الإمام بالتبعية الاسمية للسلطان السابق علي بن بدر وعموما ضرب أحد أبناء السلاطين بالطبول بسيئون أن الناس في أمان الله ثم الإمام المهدي ثم السلطان عمر بن جعفر وآل عمر بن بدر (ويظهر أن المقصود بهم أحفاد السلطان عمر بن بدر من كلا الفرعين) فقال العسكر للذي يضرب الطبل قل : وفي أمان العسكر فقال : وفي أمان العسكر وبذلك حالفهم أحد أبناء السلاطين ليكونوا عسكر للسلطان عمر بن جعفر بدلا من السلطان عيسى بن بدر ويكون لهم ما كان لهم من القوت والمصروف الشهري
وبعد ذلك امتد الناس في البيع والشراء بعد هذه الفترة العصيبة التي كان لآل كثير جعيمة دور بطولي في رفض ظلم السلطة وكفى الله المؤمنين القتال والحقيقة أن جعيمة كان لها أدوار مؤثرة سياسية في مراحل كثيرة في التاريخ
ففي العام السابق ١١١٧ هجري كانت جعيمة مقصد أمير شبام محمد بن بدر بن محمد ومعه بعض آل كثير الشنافر الذي تولى الإمارة بعد أن انتصر جيش والده السلطان بدر بن محمد المردوف على جيش السلطان عمر بن جعفر واستولى على مدن الوادي ثم توجه بدر هذا لضم الشحر ليعود مرة أخرى عمر بن جعفر ويسلمه لها نقيبها أي قائد العسكر المكلف فيها فلذلك خرج الأمير لجعيمة مع آل كثير الشنافر
ومما ذكره المؤرخ ابن حميد إن السلطان الثالث عشر من سلاطين الدولة الكثيرية عبدالله بن عمر زهد في الملك وتوجه للحج وتولى بعده أخاه بدر ويظهر إنه تولى بالنيابة حتى يعود السلطان عبدالله بن عمر لأننا نجد في رسائل الإمام ما يؤكد ذلك حيث طلب أن يعلنوا التبعية الاسمية له لكن كانوا يماطلونه وقد مكث السلطان عبدالله أكثر من عشرين سنة في مكة معتكف على العبادة إلى أن توفي فيها عام ١٠٤٥ هجري وكبر أبناءه ويظهر أنهم كانوا يرون أنهم الأحق في الملك بعد أبيهم وربما لحسن سيرته وزهده وقد سجن السلطان عمر بن بدر أخاهم جعفر ويظهر أن السبب تطلعه للحكم ولأن أخوالهم من الشنافر من آل كثير إحدى أكبر قبائل الوادي وأكثرها نفوذا كانت كل هذي العوامل مهيأة للانقلاب إضافة إلى أن السلطان بدر بن عمر استسلم أخيرا وأعلن التبعية الاسمية للإمام وخطب في المساجد عن تبعيته له عندها خطط بدر بن عبدالله مع أخواله وباقي فخايذ آل كثير جعيمة لاقتحام القصر في سيئون في مناسبة زواج أسرية وفعلاً اقتحم السلطان القصر ( الحصن الدويل) بأربعين من أخواله وعشرة من مواليه ( عبيده) في ٢٣ من ربيع الثاني في عام ١٠٥٨ هجري بعد أن فتح الباب حارس القصر وعندها قبض السلطان بدر بن عبدالله على عمه في الدور العلوي من القصر وعندها طلع مجموعة من العسكر لإنقاذه فوجدوا أسيرا بين آل كثير فطلب منهم السلطان بدر بن عمر مبايعة ابن أخيه وأراد ابنه المردوف المقاومة فطلب منه والده الاستسلام وأرسل السلطان للنقباء والعسكر وأمراء المناطق بخطه عن تنازله عن الحكم لابن أخيه وهنا أخرج السلطان بدر بن عبدالله أخاه جعفر من السجن وولاه لظفار وقد كان الشنافر من آل كثير هم عصبة السلطان المذكور بحكم أنهم أخواله وهذه الحادثة التي حصلت قبل ثلاثمائة وثمانون عام لا تزال حاضرة في أذهان الكبار فقد ذكر لي الشيخ مبارك بن يسلم بن عيلي بن سعيد عاقل منطقة جعيمة أن آل سعيد أجلسوا ابن أختهم على الكرسي في سيئون!
وهذا يظهر أن آل سعيد أخواله المباشرين ولإخوته آل عبدالله أي أبناء السلطان عبدالله لظهور عدة سلاطين من أبناءه وأحفاده
وآل سعيد نسبة إلى سعيد بن علي بن عمر جد آل عمر لكن أخواله من آل عون لذلك سكن قريباً منهم ثم أحفاده من بعدهم وقبيلة آل عون تحالفوا فسموا بالفخايذ وآل بدر بن محمد ( الشنافر) من آل كثير هم ثلاثة فروع كبيرة آل عمر وآل عامر والفخايذ
ومن المفارقات أن نسبة كبيرة من فروع الشنافر بظفار يذكرون أنهم قدموا من جعيمة فقد يكونوا ممن قدم مع ابن أختهم السلطان جعفر بن عبدالله الذي فكه من السجن أخاه بدر وولاه ظفار وعندها أرسل الإمام جيش لحضرموت لأنه أشيع أن سبب الانقلاب هو التبعية الاسمية للإمام وكذلك رفض السلطان الجديد إعلان التبعية أرسل الإمام إسماعيل المتوكل جيش بقيادة ابن أخيه ليتوجه لحضرموت عام ١٠٦٥ هجري وقاتلهم الأمير حسين الرصاص واستشهد واستطاع هذا الجيش أن يخضع البيضاء ويافع ويحتلها بالكامل بعد مقاومة عندها أعلن السلطان المذكور بدر بن عبدالله التبعية للإمام إسماعيل المتوكل فطلب إسماعيل إخراج عمه بدر بن محمد من السجن وتوليته ظفار بعد أن راسل الأخير الإمام لكن بعدها بسنوات انقلب عليه حاكم ظفار السابق ابن أخيه جعفر بن عبدالله وخلعه وأخبر السلطان بدر بن عمر أن سبب خلعه هو خطبته للإمام وأن بدر وجعفر بن عبد الله خلعوه لذلك وبذلك أرسل المتوكل جيش أعانه الشيخ عبدالله العمودي بسبب خلافه مع السلطان بدر بن عبدالله الذي قاتل واستبسل لكن كان الجيش يفوقه فانهرم إلى شبام ثم بلاد أخواله لولي الإمام عمه السلطان بدر بن عمر حاكما على حضرموت
وإذا كانت شبام والمدن الأخرى وإن مر عليها فترات فرضت فيها الدولة ضرائب ومطالبات مالية فيها من الظلم والبغي فقد مر عليها أمراء ذكر المؤرخين عن عدلهم وسماحتهم ومنهم أمير شبام بدر ابن السلطان الثالث من سلاطين الدولة الكثيرية محمد بن عبدالله وقد توفي الأمير المذكور عام ٩١٥ هجري وهو أول من حكم الشحر منهم وقد ذكروا عنه أنه صاحب شفقة على الرعية *ويقول رحمه الله تدخل المسرة علي إذا نظرت أحدا من رعيتي مسرورا وأفرح بحسن حالهم وجمالهم في المال والأهل والولد وأنه يقول ولاة حضرموت ينبغي لهم أن يعيشوا بالحراثة في الأرض ويعتمدون عليها ويقنعون بما حصل منها لا ينبغي أن يقتدوا بملوك العجم في السعة والرفاهية والبطر فكان زاهدا ويأكل من الذرة والدخن وأما أخاه الأمير عبدالله بن محمد فكان يتفقد الرعية ويذكرون إنه يقف مع الضعفاء ويقول من للضعيف إلا نحن! وذكروا أن قطاع طرق نهبوا مال لرعيته في شبام فسعى في استرداده وفقد أحدهم غرض سعى في رده حتى وجده في ابراد وهي من بلاد عبيدة واسترده وأعاده لصاحبه رحمه الله
*الحقيقة إن موقف آل كثير الشنافر في حماية التجار من الضرائب التي قتلت التجارة ورفض قبيلة آل سعيد أن يرجعوا مع تهديد الدولة بإرسال جيش لبلادهم يدل على موقف شجاع وبطولي وحضاري ولا يستغرب هذا من قبيلة يطلق عليها حمران الشعر لاكتسابهم هذا اللقب بعد معركة أصابوا خصومهم في رؤوسهم فأطلق عليهم إخوتهم من الفروع الأخرى ممن شارك معهم بهذا اللقب لإجادتهم في الرمي وكما أنهم تميزوا بإصابة الخصوم في مواقع قاتلة فقد تميزوا بالرأي السديد والموقف الرشيد وهذا الموقف يبين أن القبائل ممكن يكون لها أدوار مجتمعية لنصرة العدالة ورفع الظلم عن المجتمع في حال فشل السلطة في تحقيق العدالة المجتمعية*
المراجع:
تاريخ الشحر وأخبار القرن العاشر
تاريخ ابن حميد الكندي
عبد الإله بن سعيد بن عيلي