( مواقف بطولية لرجال من حضرموت ٤)
من المواقف البطولية التي حفظها التاريخ الحضرمي وتناقلتها الأجيال موقف لقبيلة حضرمية أجارت خصومها وخصوم سلطانها بعد هروبهم من السجن !
وتتجلى عظمة هذا الموقف في أن هذه القبيلة وهي قبيلة آل منيباري الكثيري أجارت أعداءها بالأمس ومن قاموا بغزوهم في سيئون بعد استعادة الدولة الكثيرية الرابعة لها بقيادة السلطان غالب بن محسن الكثيري ومعه آل كثير والعوامر والجوابر وآل باجري.
وبعد أن أخفقت محاولة يافع بالسيطرة على سيئون في عام ١٢٦٧هـ وانسحاب قائد يافع كلد ويدعى صائل والمتهم بأنه اتفق مع آل كثير بانسحابه وسجن أحد أهم قادة يافع وقائد المهاجمين من (يافع التلد) لاستعادة سيئون وهو سالم بن علي بن هرهرة ومعه مجموعة من يافع ، وبعد فترة هرب سالم بن علي ورجاله من السجن في وقت احتفال كان في سيئون ولم يَبْقَ من الحرس إلا واحد، فاستطاع المسجونون الخروج وخنقوا الحارس الوحيد الموجود وقتلوه وهربوا ، وفي طريقهم سقط أحدهم وانكسرت رجله فلم ينجده البقية فهددهم بالصراخ إن لم يحملوه فتركوه فصرخ، فجاء بعض آل كثير فلحقوه فقتلوه وأسروا ثلاثة من يافع وهرب البقية والتجأ سالم بن علي بن هرهرة وستة من رجاله إلى ديار قبيلة آل منيباري الكثيرية (حيث حصن آل منيباري شمال مدينة سيؤن) كما هو مذكور في كتاب تاريخ حضرموت السياسي لصلاح البكري في الصفحة ١٢٨ .
فرحب بهم آل منيباري وأكرموهم ثم علم السلطان غالب بن محسن بذلك فأرسل إلى آل منيباري يطلب منهم خصومه الهاربين من سجنه من يافع وضيوفهم حاليا! فامتنعوا أول الأمر لكونهم ضيوفهم ثم سلموهم للسلطان غالب.
وتعتبر قبيلة آل منيباري (آل علي بن بدر) الكثيرية من القبائل المعروفة بشراستها وشجاعتها في الحروب الكثيرية مع يافع كما ذكر مؤلف كتاب إدام القوت في كتابه ثم ذهب بعض عبيد آل منيباري لشبام فعيَّرهم السماسرة بتسليم آل منيباري ضيوفهم من يافع للسلطان غالب فوقع اللوم في نفوس آل منيباري وكانوا بين النظر إلى كونهم خصومهم وغزاتهم بالأمس وأشد أعدائهم وهاربين من سجن السلطان وقتلوا أحد حراس السجن للدولة الكثيرية وبين أنهم ضيوفهم وفي أنهم لجؤوا إليهم!
فسار ١٦ رجلاً منهم بقيادة الشيخ عايض بن صالح بن سعيد بن عامر بن منيباري إلى السلطان غالب بن محسن وهو مؤسس الدولة الكثيرية الرابعة وكانت لا تزال إمارة فوجدوه في قصره وحوله ٨ من عبيده فطلبوا إليه تسليم يافع فامتنع السلطان غالب لكونهم خصومه، فلم يقبلوا ذلك منه وقاموا بإغلاق القصر وتهديد السلطان الذي كم قاتلوا دونه بأن يقتلوه مع عبيده إذا لم يسلمهم أسرى يافع.
وهو تصرف في غاية الجرأة والتهور ويدل على إباء القبيلي الحضرمي وعدم قبوله أن يهان ضيفه ومن استجار به ولو كان خصمه وعدوه اللدود، فأجابهم السلطان غالب وكان في غاية العقل والذكاء والشجاعة والحكمة وهو مؤسس الدولة الكثيرية الرابعة وقد جمع صف الشنافر ولذلك نهضت دولته بعد ذلك.
ثم إن آل منيباري لما أخذوا أسراهم من السلطان غالب رفعوا الجنابي حمايةً لهم وهم خارجون فلقيهم أحد أقارب السلطان فقال:
(عساها دايمة يا بن علي امبدر)
يدعو لهم بدوام العزة والأنفة والحمية والشهامة وأن لا تهون جنابيهم (آل علي امبدر وهو جد آل منيباري)
وسار آل منيباري بمن معهم من يافع بعد إطلاق سراحهم إلى شبام في تصرف ثار إعجاب السماسرة في شبام وأثنوا على شهامتهم وكرمهم وعند وصولهم لشبام وكانت تحت حكم منصور بن عيسى امبدر الكثيري وكانت إمارة آل عيسى امبدر أقدم من إمارة السلطان غالب بن محسن الناشئة طلب الأمير منصور منهم بأن يطلبوا من يافع فك أسرى آل كثير لديهم فامتنع آل منيباري وقالوا سنسلمهم ليافع وهم إن شعروا من تلقاء أنفسهم بالواجب فيا حبذا.
ثم ساروا إلى الحوطة عند الأمير محمد بن عمر القعيطي اليافعي والماس عمر واحتفت يافع بآل منيباري الكثيري احتفاءً عظيما وكيف وهم يرونهم يعارضون أمراءهم الذين يقاتلون دونهم في سيئون وشبام ليطلقوا أشد خصومهم لمجرد لجوئهم واستجارتهم بهم فمن يفعل هذا مع خصمه اللدود!؟
فأطلقت يافع ثلاثة من أسرى آل عيسى امبدر الكثيري أمراء شبام وخمسة من مواليهم، وهذا الموقف عظمته في إباء القبيلي الحضرمي وكرمه مع خصمه اللدود ما دام استجار به والأشد تضحيته في سبيل ذلك.
ومما ينبغي الإشارة إليه أن السلطان غالب كان موقفه موقف رجل دولة فامتناعه عن ذلك لأن هؤلاء خصومه لكن آل منيباري نظروا إليها بمنظور القبيلي الذي يستجار به فتأبى نفسه أن يُهان ضيفه.
وآل منيباري إحدى قبائل آل عون الكثيرية، وآل عون مع قبيلة آل سعيد الكثيرية يطلق عليهم الفخائذ، واسم والد آل منيباري هو (علي بن بدر) ويقال لهم باللهجة المحلية (آل علي امبدر أو بن علي امبدر) بإدغام الاسمين، وقد أطلق على جدهم علي بن بدر لقب (منيباري) وذلك لكونه قويًّا ضَخْمَ البنية، فشبهوه بسفينة ضخمة كانت تتردد على ساحل حضرموت تأتي من الهند (مليبار).
فرحم الله الرجال التي قدمت مبادئها وأكرمت ضيوفها فنالت احترام خصومها قبل قومها ورجعت بأسراهم سالمين غانمين، ورحم الله الضيوف والأسرى والسلاطين الذين جمعوا الشهامة والسياسة.
✍🏻 عبد الإله بن سعيد بن عيلي