الذكرى الحادية والخمسين لإعدام البـطل الشهيد اللواء صالح يسلم بن سميدع
تحلّ علينا اليوم الذكرى 51 لإعدام البطل الشهيد اللواء صالح يسلم بن سميدع، وذلك يوم العاشر من محرم عام 1392 هـ -الموافق 12من شهر فبراير 1973م وكان رحمه الله صائمًا إذ ذاك كعادته كل عام – على أيدي مجرمي التنظيم السياسي للجبهة القومية في حضرموت بعد محاكمة صورية استمرت 45 دقيقة فقط في جلسة واحدة أمام محكمة الشعب بالمكلا برئاسة المدعو علي هادي، وقد مثل الشهيد البطل أمام المحكمة كالطود الشامخ، وقال مخاطبًا رئيس المحكمة أنني أعرف أن الحكم جاهز في الدرج فلا داعي للإطالة فكل شيء بمشيئة الله، ولا يقطع الرأس إلا من ركّبه، إنها الشجاعة في وجه الجبن والإيمان في وجه الكفر .
بعد صدور الحكم الجائر بحق الشهيد تم منع الزيارة له في السجن، ولكن بفضل الله وبفضل مسئول السجن والجنود الأوفياء كان يتم السماح بزيارة أولاده له بصور سرية بين وقت وآخر، وكان اللقاء يتم إما في مكتب مدير السجن، أو في غرفة مغلقة بعيدا عن أعين الجواسيس، وكان رحمه الله يشدد في كل زيارة لأولاده بعدم مراجعة أي مسئول لتخفيف العقوبة أو العفو وأن الأعمار بيد الله وحده .
لكن أمام إلحاح والدتهم وأقاربهم توجه أبنائه إلى عدن لمقابلة الرئيس سالمين، وكانت مغادرتهم المكلا سراً، و هناك التقوا بالرئيس سالمين بواسطة الأخت عائدة يافعي وبحضور مطلق عبدالرحمن وكان سالمين متفهماً ، ووعدهم خيراً، وبالفعل أرسلت برقية للمكلا بإيقاف الإعدام، ولكن الحاكمين بالمكلا أسرعوا بالعملية، وتم تنفيذ حكم الإعدام لوضع الجميع أمام الأمر الواقع، وكانت صدمة رهيبة لأسرته التي مرت بظروف عصيبة لفقدانهم عائلهم ووالدهم، ولكن عزاهم فيه أنه مات صائماً شهيداً ليلتحق بالشهداء والصديقين.
كان الشهيد قادراً على مغادرة البلاد عندما أفرج عنه قبل ذلك، بل وتواصل معه العديد من الشرفاء الوطنيين لإقناعه بالخروج وترتيب عملية إخراجه، ولكنه رحمه الله رفض كل العروض مفضلاً البقاء في الوطن وبين أسرته، فقد كان مؤمناً بالله وبالقدر واثقاً من نفسه، وأنه لم يقدم لوطنه إلا كل خير ؛لكن..من تحكم بالوطن في تلك الفترة كانوا يعتبرونه عقبة في طريق طموحاتهم وتمرير مخططاتهم القذرة .
لأنه أول من قال لا لمن يريد طمس حضرموت وتاريخها وإلحاقها بالآخرين، وجاهر بالقول، وكان يشكّل مع رفيق دربه وزميله النائب بدر أحمد الكسادي نائب لواء المكلا أو محافظ العاصمة كما يطلق عليه، والذي أُعدم بعده بأيام وسكنوا إلى جانب بعض في مقبرة سجن المنورة سبحان الله .
كان الاثنان من أهم ركائز الحكم القعيطي آنذاك ؛كيف لا وهم من تولّى قيادة البلاد منذ أحداث الرابطة بقرار السلطان عوض بن صالح القعيطي لقيادتهم لجنة الطوارئ مع قادة القوات المسلحة حتى وفاته ، وتولي ابنه غالب الحكم الذي أمر بمواصلة اللجنة أعمالها حتى 17/سبتمبر/1967م عند تسليم السلطة للجبهة القومية ، فاللواء بن سميدع شخصية عسكرية وسياسية فذَه والنائب بدر سياسي مخضرم ومحنك ويتمتع بقوة الشخصية، وكانا يشكلان عائقًا للنظام الجديد ؛ لذلك قرروا التخلص منهما بعد سنوات من اعتقالهم، فقد مضت عليهم سنوات وهم داخلين السجن خارجين منه، وضاقت السلطة بهم ؛ فطالما بقي هذا الاثنان على قيد الحياة يشكلان هاجساً مزعجاً للسلطة، فتم اتخاذ قرار التصفية مما يدل على هذه النوايا المبيتة .
بعد اعتقال الأخير توجه ابن اللواء ابن سميدع لمقابلة المحافظ آنذاك علي البيض فلم يجده، ووجد سكرتير المحافظ سالم جبران، ودخل مع المواطنين إلى المكتب وقدم له عريضة بطلب الإفراج عن والده، وكان الابن يبلغ من العمر 18 عام ؛ فلما قرأ جبران العريضة رماها في وجه الولد وقال له : (( والدك عميل، وسيقدم لمحكمة الشعب، تأثر الولد الصغير أمام ذهول الحاضرين الذين طيبوا عن خاطره، وعاد الابن إلى البيت يجر أذيال الخيبة، وكانت والدته تنتظر أن يأتي ابنها بأمر الإفراج، ولكنها صدمت بما قاله، فرفعت يديها إلى السماء تدعو بالشتات لمن يريد أن يحرمهم عائلهم، وتحققت تلك الدعوة ولو بعد حين، فسبحان الله كيف أن دعوة المظلوم تفتح لها أبواب السماء ؟!
بعدها سيّرت المسيّرات الهوجاء وأخرج الطلبة والموظفين قسرًا إلى الشوارع ؛للمناداة بإعدام العملاء والرجعيين يتقدمهم مجاميع تحمل الميكروفونات يهتفون ويرددون شعارات تقول:
ابن سميدع و الكسادي هؤلاء أعداء بلادي
ابن سميدع احرقــوه والكسادي مزقـــوه
يا تنظيم نفذ نفذ الإعدام لازم ينــفذ
يا تنظيم نفذ نفذ الإعدام بسرعة ينفذ
وأقيم المهرجان الخطابي، وألقي فيه علي هادي -رئيس محكمة الشعب- خطاباً نارياً وعد الناس بمحاكمة من أسماهم بالعملاء، وتنفيذ مطالب الشعب، يا لها من مهزلة الحاكم هو الجلاد ، وكانت محاكم الشعب أو محاكم السب تشبه محاكم المهداوي في العراق في عهد عبدالكريم قاسم تبدأ بالطبول، وتنتهي بالرقص، وقد ينبري أحد الشعراء المنافقين ليلقي قصيدة هوجاء هكذا الوضع في تلك الفترة، فقد أعدم العديد من الرجال الوطنيين، ففي الشحر أختطف الوزير عبدالرحمن بازرقان، واللاعب الشهير هادي زيدان، وحسين الذيباني ورفاقه الخمسة، والعديد من أبناء الشحر، وفي دوعن أخذ المنصب الوقور سعيد باحسين العمودي من بضة، وأعدم تسعة من شباب دوعن في صيف وصلبوا على جذوع النخل، وقتل العقيد باقروان في حجر، وهو يتأهب لصلاة الجمعة، وفي المكلا أحمد برجف، وبخيت القرزي، وسحل العلماء والشيوخ والقادة في وادي حضرموت، وسحبوا بالسيارات إلى مسيال شبام ، وأقيمت حلقات الرقص على جثثهم، والعديد العديد من أبناء حضرموت ذهبوا ضحية النظام الشيطاني .
لقد حكم هؤلاء الرعاع البلاد بالحديد والنار، وارتكبوا الجرائم، واستباحوا المحرمات، وكان الأحرى بهم أن يكونوا في قفص الاتهام، لما ارتكبوا بحق الوطن من الجرائم لا أن يكونوا حكامًا وممثلين لهذا الشعب الطيب الصابر .
لقد قدّم الشهيد بن سميدع حياته فداء لوطنه وترابه، وسيظل التاريخ يذكر كل هؤلاء الشهداء بأحرف من نور، ولن تذهب تضحياتهم هدراً، ونحن الآن على مفترق الطرق يجب رص الصفوف ونضع أيدينا في أيدي بعض، وننبذ كل من تلوثت يده بدماء وأعراض هذا الشعب، وكل من يريد عودتنا للوراء، وأن لا نترك لهم فرصة التحكم برقابنا (ولا أحد يجرب المجرب ).
يكفي من صمت وتسامح، فكل ذلك جعلهم يتمادون، ويخرجون من جحورهم بقصد الالتفاف على أماني شعبنا وجماهيرنا . يجب أن نقول للأعور أنت أعور ، فلدينا الشباب والرجال باستطاعتهم قيادة الوطن إلى بر الأمان .
يكفي ما عانته حضرموت على أيدي العاقين من أبنائها الذين حولوها إلى قرية وقتلوا وشردوا الشرفاء من أبنائها، بل وحاولوا طمس تاريخها المشرق الوضاء، وتغيير معالمها وآثارها، حتى الشوارع والمدارس سميت بغير أبنائها ورجالها، وجلبت لنا أسماء من الخارج، كأنه ليس لدينا شهداء وزعامات وعلماء، تخيّل مدارس باسم السلال وسمية، وشوارع باسم محمد إسماعيل و7يوليو ،حتى أيام الاشتراكي البغيض الوحدات باسم جيفار وكاسترو والندي ولينين، يا سبحان الله كانتا بلا تاريخ وهذه مسئوليات المسئولين من أبناء المحافظة حالياً وسابقاً .
للذكرى :
الزمان العاشر من محرم (عاشوراء) ، المكان سجن المنورة مكتب مدير السجن ، الساعة الثالثة والنصف عصرًا .
استدعى المعتقل اللواء صالح يسلم بن سميدع إلى مكتب مدير السجن بالمنورة، وأخبر أنه صدرت تعليمات بأن يتم تنفيذ حكم الإعدام فورًا ،وإذا لديه شيء وصية أو غيره، وعليه أن يفطر كونه كان صائمًا، فالتفت ابن سميدع فوجد أمامه نائب مدير السجن الذي كان يكلمه، وثلاثة من أمن الثورة، وعدد من الجنود التابعة للسجن يعرفهم كلهم حق المعرفة.
قال ابن سميدع أنه صائم، ويحب لقاء ربه صائمًا، وكتب رسالة لأبنائه أوصاهم خيراً بوالدتهم وإخوانهم ، وصلى ركعتين ، تحرك الركب إلى ساحة الإعدام بجانب كهرباء المكلا، وكان بن سميدع يتلو آيات من القرآن، ويشهد ويكبّر، والابتسامة لا تفارقه .
كان يقف هناك عدد من الجنود لتأمين العملية يتوسطهم الدكتور أحمد كفيل الدين (هندي الجنسية ) الذي بهت عندما رأى بن سميدع أمامه، وكان صديقه الحميم، لكن بن سميدع حادثه باللغة الهندية، وكان بن سميدع قد خاطب الموجودين قائلاً أنه يعتبرهم أبنائه، وأن الجندي مأمور بتنفيذ الأوامر مهما كانت، وليس في قلبه أي شيء تجاههم، ويدعو لهم بالتوفيق .
ورفض عصب عينية بالعصابة ،ولم يربط بالعمود -وهذه المعلومة ذكرها أحد الجنود الحاضرين الإعدام ونقلناها بالحرف – وظل واقفاً يتلقى الرصاص حتى لفظ آخر أنفاسه له الرحمة .
هذا واحد من رجالات حضرموت الشجعان يلقى ربه بالقرآن شهيدًا –كما نحسبه والله حسيبه- صائمًا لوجه الله ، وكان الشهيد بن سميدع قد قارب السبعين عام من عمره .
سيظل العار والخزي يلاحق من تآمر على حضرموت ورجالها، وباعوا أنفسهم للشيطان، وسيذكر أبناء الوطن شهدائهم الأبرار الذين قدموا حياتهم فداء لحضرموت وعزتها .
قال تعالى ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) صدق الله العظيم .
في الأخير نتساءل هل يقبل أبناء وأحفاد وأهل الذين قتلوا وسحلوا واختفوا أيام الاشتراكي البغيض ، بعودة جلاديهم وقاتلي أهلهم لحكمهم، واستبعادهم من جديد، وفرض النظام الدموي مرة أخرى ؟! لا أظن، بل إنني على يقين أن أبناء حضرموت سيقاتلون حتى آخر رمق، وسيتحالفون حتى مع الشيطان لردعهم من العودة للحكم (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) .
إن الوطن مليء بالرجال والكفاءات، ولا مجال لتلك الوجوه الطالحة المخضبة بالدم تتحكم برقابنا مرة أخرى ،فالزمن قد تعداهم مهما تلونوا فالشعب منتبه لهم، ويجب عليهم التواري عن الأضواء، والانكفاء في دهاليز الظلام بانتظار يوم الحساب وهو قريب إن شاء الله .
———————————–
حديث الصورة : وفد دولة حضرموت مع الملك فيصل بن عبدالعزيز لتهنئته بمناسبة توليه للملك ، والوفد مكون من : اللواء صالح يسلم بن سميدع و النائب بدر أحمد الكسادي والسيد أحمد العطاس
محمد محفوظ بن سميدع